الرئيس فؤاد السنيورة يكتب عن عادل إسماعيل الدبلوماسي والمؤرخ ورجل الدولة والمؤسسات

كتب الرئيس فؤاد السنيورة مقالا عن السفير الراحل عادل إسماعيل ونشرته صحيفة النهار اليوم وقد توفي بعد أن ترك خلفه أرثا كبيرا في التاريخ والممارسة الدبلوماسية الراقية ، وفي ما يلي نص المقال :
عندما نتحدث عن عادل إسماعيل، الذي رحل عنا منذ أيام، فإنما نذكر حضوره الكبير والهادئ والباقي ما بقي لبنان وبقي تاريخه، وبقيت حواضره وعلاقاته الدولية.
لقد اعتاد المقدّرون لعمل عادل إسماعيل من اجل لبنان وتاريخه وثقافته ووقائعه، أن يبدأوا بذكر جهده الكبير في المجال الدبلوماسي، فقد ظل سفيرا زهاء الأربعين عاما، وهو سواء في عمله في وزارة الخارجية، أو في سفارات لبنان في الخارج، أو في عمله الطويل بالاونيسكو، كان مثالا في المبادرة والنزاهة، تسبقه ثقافته ومعرفته، لتمهد له ما يريد أن ينجزه من عمل من اجل لبنان وعلاقاته الخارجية. إنما ليس هذا فقط، بمعنى أن ثقافته العميقة والواسعة ما كانت ضرورية ومتميزة لنجاحه الدبلوماسي فحسب، بل كانت ضرورية للنجاح في تمثيل لبنان. فقد كان عادل إسماعيل يعتقد جازما أن لبنان بخلاف الكثير من دول العالم، إنما يقوم في الدرجة الأولى على ركنين: الثقافة والحرية. لذلك كان يقول بشيء من الفكاهة والابتسام أحيانا: ضروري للذي يمثل لبنان في الخارج وفي الاونيسكو على وجه الخصوص، ألا يتقن لغات عدة فحسب، بل ثقافات عدة، لان لبنان لا يستطيع التأثير في الخارج إلا من طريق ما هو جوهري فيه، وهو الثقافة، ثقافة الانفتاح والتنوع وثقافة الحرية.
بيد أن عادل إسماعيل ما كان في حياته الغنية دبلوماسيا ناجحا فحسب، بفضل ثقافته ونزاهته وحبه لبلده وعمله لمصلحته، بل كان الأمر الذي اشتهر به أيضا انجازه الأسطوري في نشر وثائق وتقارير ورسائل ودراسات عن تاريخ لبنان في القرنين الماضيين، من الأرشيف الفرنسي والأوروبي، وصلت إلى ما ينوف على ستين مجلدا، تلا احدها الآخر بوتيرة ما انقطعت طوال نحو خمسة عقود. وهذه الوثائق المتقنة النشر، وما أنجزه عادل إسماعيل لها من شروح وإيضاحات، وما قدم به لها من مقدمات، كل ذلك يجعل عمله التوثيقي والتاريخي ضرورة لكل عامل في تاريخ لبنان والمنطقة العربية المجاورة، وخصوصا في ما يتصل بالعلاقات الدولية والوجود والتأثير الأوروبي، والمعلومات التفصيلية عن الدواخل التي كان يستند إليها ذاك التأثير. وقد ذكر لي أصدقاء مارسوا طويلا مهنة التأريخ والعمل على تاريخ لبنان الوسيط والحديث، إن جهد المؤرخ عادل إسماعيل – وهو الخبير الكبير في الدبلوماسية في التاريخ والحاضر – يفوق الجهد الذي يمكن أن يقوم به فريق بحثي مدى عقود، ويحتاج إلى إمكانات ما كان السفير الدكتور عادل إسماعيل يحلم بها، ومع ذلك فقد أنجز بمفرده ما لم ينجزه احد من قبل، ربما باستثناء الدكتور أسد رستم في عمله على الوثائق المصرية في لبنان في عصر محمد علي (أي خلال الاستيلاء المصري على بلاد الشام بين 1831 و1839)، وهي على أي حال اصغر حجما بكثير. لقد أسس عادل إسماعيل، من خلال مؤلفاته الأخرى التي تنوف على ثلاثين كتابا ومجلدا، لمدرسة تأريخية متميزة، عمادها التحقيق العلمي والنقد المتنور والانفتاح وعدم الاكتفاء بترداد ما كتبه أسلافه. فحصن علم التاريخ، وابتدع مقاربة علمية مبنية على القراءة المتأنية للوثائق، وعلى التحليل الموضوعي، وعلى الحس بالمسؤولية المعنوية تجاه القارئ، أكان طالبا جامعيا أم باحثا أكاديميا أم مواطنا عاديا متعطشا إلى فهم تاريخ لبنان من منطق علمي، يتعدى الطائفة والمعتقد.
كان له الفضل في نهضة الأبحاث التاريخية حول لبنان، وقد أحس قبل غيره من المؤرخين اللبنانيين المسلمين بخصوصية هذا البلد، وما انفك يؤكد عليها ويشرح العوامل الجغرافية والسياسية والاجتماعية والدولية التي كونت جميعها هذا الكيان الفريد في المنطقة، القائم على العيش المشترك بين الأديان والأفكار والمعتقدات ومنارة للانفتاح على الغير وعلى العالم. والاهم انه تمكن حسبما علمت من انجاز مذكراته قبل أيام من وفاته، وبهذا يكون عادل إسماعيل قد اثبت انه أسرع من مرور الوقت، كان يصارع للاستفادة من كل دقيقة فيه وقد نجح في أن يترك لنا وللأجيال التي بعدنا عمارة كبيرة لا يمكن البحث في تاريخ لبنان من دون الانطلاق منها.
عادل إسماعيل السفير، وعادل إسماعيل المثقف، وعادل إسماعيل الموثق والباحث والمؤرخ، لماذا قام بكل هذا الجهد وأنجز هذا الانجاز؟ لأنه أحب وطنه وبني قومه، ولىنه أراد الإسهام في بناء حياة وطنية مؤسسة على معرفة وثيقة بالماضي القريب وعلاقاته وظلاله، ولأنه أحب الدولة اللبنانية واخلص لها واعتبر العمل فيها شرفا وقدرا، وأراد أن يفيها حقها لتكون إسهاما في البناء الوطني ودولة المؤسسات. وفوق ذلك كله أو في موازاته فقد كان عادل إسماعيل رجل أسرة بارا، وصديقا صدوقا، وصاحب خلق كريم، ورجل وفاء وهمة في الملمات. وكفى برسائله ومعارفه ورفاقه وتلامذته وكل اللبنانيين على ذلك شهيدا.
رحم الله عادل إسماعيل رحمة واسعة، وأبقاه وأبقى سيرته في مؤسسات الدولة اللبنانية، والعمل الثقافي والفكري، مثالا لشبابنا ونموذجا في خدمة الوطن وقيمه السامية
