الرئيس السنيورة :ما تحقق بعد إنجاز الاستقلال في الدول العربية لا يتلاءم والتضحيات التي قدمتها الأمة وشعوبها

شارك رئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنيورة في افتتاح منتدى اصيلة الـ37 والقى محاضرة بحضور حشد من المسؤولين في المغرب والمثقفين والمفكرين العرب في ما يلي نصها :
أصحاب المعالي،
أيها السيدات والسادة،
ما كان ممكناً أيها السيدات والسادة، اختيار عنوان أفضل لندوتكم وفي هذا الوقت بالذات من عبارة: "العرب: نكون أو لا نكون". فالمنطقة العربية تمر اليوم بواحدةٍ من أدقّ المراحل في تاريخها الحديث منذ تفكك السلطنة العثمانية واتفاقية سايكس بيكو، حيث نشهد شبه انهيار في عددٍ من المجتمعات العربية وتبدلٍ في الجغرافيا السياسية للمشرق العربي التي قامت في المنطقة منذ تلك الاتفاقية التي سمحت بتوزيع مناطق نفوذٍ للاستعمار الفرنسي والبريطاني وبعد ذلك في نشوء دولٍ جديدة في كلٍ من المنطقتين.
والواقع أنّ اتفاقية سايكس بيكو حصلت منذ حوالى مائة عام نتيجةً لانهيار الدولة العثمانية، وتقاسم المنطقة بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي وبمباركة روسيا القيصرية على أثر الإخلال بالوعود التي أعطيت للشريف حسين الذي قاد وقتَها الثورة العربية بدءاً بالعام 1916 والتي تبعها وعد بلفور عام 1917.
ثار العرب في المشارق والمغارب لعدة عقود وانتفضوا من أجل الاستقلال والحرية. وقد تحقق إنجاز الاستقلال، لكن ما تحقق بعده لا يتلاءم والتضحيات التي قدمتها الأمة وشعوبها. ثمّ إنه وفي غمرة هذا النضال قام الكيان الصهيوني، الذي هو استعمار استيطاني في قلب أمتنا العربية، سرق أرض فلسطين وشرّد شعبها وتوسع على حساب القانون الدولي وحقوق الشعوب العربية الضعيفة والمغلوبة على أمرها. وذلك ما أدى بدوره إلى مآس إنسانية ووطنية كبيرة وفتح المنطقة العربية من داخلها ومن خارجها، وما يزال، على احداث وصدمات ومشكلات مازلنا نشهد تداعياتها حتى اليوم والتي يمكن إيجازها بالآتي:
أولاً:استمرار القضية الفلسطينية دون حل عادل، حيث فاقم استمرارُ هذه المأساة الكبيرة من دون حل مجموعة من الأحداث والصدمات الخطيرة التي شهدتها المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين انطلاقاً من نكبة 1948 مروراً بهزيمة العام 1967 والتي أدّت إلى احتلال إسرائيل أراض عربيةً جديدةً، والتداعيات العميقة والخطيرة لذلك كله وما تلاها من صدمات وأحداث في أكثر من منطقة عربية وتوسع وتصاعد عمليات الاستيطان في القدس والضفة الغربية.
ثانياً:الانسحاب العملي لمصر من قضايا العالم العربي بعد توقيعها لاتفاقية كامب دافيد في 17/12/1978 متسببةً بفراغٍ كبيرٍ استمر وعلى مدى عدة عقود وذلك خلافاً لما كان لمصر وما ينبغي أن يكون لها من دور ووزن عربي وإقليمي حاول ويحاول الآخرون من خارج العالم العربي تعبئته أو الحلول مكانها وما يزالون.
ثالثاً:الغزو السوفياتي لأفغانستان بين عامي 1979 و1989 وما فَجّره ذلك الاجتياح من صراعات وحروب ونزاعات وإيقاظ لشياطين التطرف والعنف ومفتعلي الفتن في أكثر من منطقة عربية وإسلامية.
رابعاً:الغزو العراقي للكويت في 2/8/1990 وما أحدثه من شروخات داخل الصف العربي.
خامساً:تصاعد التدخل الإيراني والتطرف الديني والسطوة الإيرانية في المنطقة ابتداء من ثمانينات القرن الماضي المدفوعة بنظرية تصدير الثورة والمرتكزة على فكرة ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية. وعلى ذلك، سعت إيران وتستمر في سعيها لبسط سيطرتها ونفوذها، وهي في ذلك تتمدد على حساب وحدة المجتمعات العربية وتستخدم نفوذها في تمزيق المجتمعات طائفياً ومذهبياً. كذلك تعمد أيضاً إلى استغلال فشل بعض الدول العربية في استيعاب التنوع الاثني والتعددية الطائفية في بلدانها في إطار الأمة الواحدة وهي تنفذ ذلك عبر شبكة من التنظيمات المسلحة التي تسهم بدورها بتأجيج هذه الصراعات والانقسامات الداخلية وزيادة حدة الاحتقان والتطرف. وهي لهذا الغرض تضع الشبان الشيعة العرب في مواجهة الآخرين، وتخُلُّ بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالح التدخل الخارجي الذي تدعي معاداته، وهي تتساومُ معه وتتبادل الصفقات. فإيران أصبحت تمارس دوراً يعكف على اختطاف قضايا العرب والمسلمين والتستر بذلك خدمة لما تعتبره مصالحها القومية، وتعمل على اختراق العراق بالكامل وتقسيمه، وهي في الوقت ذاته تقف داعمة لـ «حزب الله» في تعطيله لمؤسسات لبنان الدستورية وفي تدخله في سوريا لدعم نظام الحكم في دمشق، بما أدى إلى تدمير سوريا وشعبها وتهجيره في الداخل والخارج. هذا فضلاً عن دورها التدميري والانقسامي في اليمن.
سادساً:استمرار مفاعيل الزلزال الذي نتج عن الغزو الأميركي للعراق في 19/3/2003 وما تأَتّى عن ذلك من تسريح الجيش العراقي وحلّ الدولة وبث المزيد من الفُرقة والتمزق في صفوف العراقيين. لقد أفضى الغزو الأميركي للعراق إلى زعزعة النظام الإقليمي في منطقة المشرق العربي وجرى بموجبه تقويض الدور التاريخي للعراق كدولة عربية محورية قوية حاجزة بين الداخل الأسيوي والبحر المتوسط وأفسح في المجال أمام إيران لكي تتقدم لملء الفراغ الناتج عن انحسار دور مصر وتوسعها وصولاً إلى شواطئ المتوسط وبعد ذلك إلى مضيق باب المندب وادعاء بعض مسؤوليها بأنهم بصدد بناء الامبراطورية الفارسية والسيطرة على أربع عواصم عربية.
سابعاً:التداعيات الخطيرة والبالغة التأثير على أكثر من صعيد وطني وسياسي وثقافي وأمني واقتصادي واجتماعي لثورة الاتصالات التي حملت معها إسقاطاً لحواجز الزمان والمكان وكذلك لحواجز الصمت والخوف في العالم العربي وهي الصدمات التي فاقمها الانفجار السكاني في المنطقة العربية وتصاعد مشكلة البطالة والانحسار المتزايد في مستوى الحريات الخاصة والعامة وتردي الأوضاع المعيشية وتزايد الفجوة بين التوقعات والواقع ولاسيما لدى الشباب في أكثر من بلد عربي، وهي التطورات التي كان لمجملها دور كبير في زيادة حدة الإحباط لدى الأجيال الصاعدة من جهة وبالتالي في إطلاق حركات التغيير العربي وجعلها أحد تجليات تلك الصدمات والتطورات الحاصلة في العالم العربي، بما عنى أيضاً من صدامات ومواجهات داخلية وتدخلات إقليمية ودولية في عدد من الدول العربية المضطربة.
أيها السيدات والسادة،
ها نحن هنا وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، نشهد مرحلةً جديدةً من التفتيت والتشرذم والانهيار في وضعنا العربي وذلك أيضاً وللمفارقة، نتيجة تعثر المشروع العربي الثاني الذي أطلقه الرئيس جمال عبد الناصر في خمسينات القرن الفائت وما تبعه من وصول العسكر إلى حكم عدد من البلدان العربية بهدف استعادة الأرض والكرامة وإعادة الاعتبار إلى حريات وحقوق شعوب هذه المنطقة. المأساة الجاثمة على صدور العرب أجمعين أنه لم تُستعدْ الأرض ولا استُردّتْ الكرامة الإنسانية والاجتماعية، ولم تنجح تلك الأنظمة في تحقيق التنمية المنشودة. والحقيقة أيها السادة أنه قد ترافق مع هذه المتغيرات الحاصلة في بلداننا العربية وعلى حدودنا متغيِّرٌ آخَرُ وهو الانحسارُ الذي شهده الفكر العروبي والفكر القومي المستنير.
والحقيقة أن انحسار المد القومي بمفهومه التقليدي يتصل بإخفاق بعض الأنظمة العربية والسياسات التي قامت باسمها أو توسلتها مصدراً للشرعية. فلقد تحول هدف تلك الأنظمة من استعادة الأرض إلى الاحتفاظ بالسلطة والبقاء في الحكم، ومن الالتفات إلى مصالح الشعوب إلى السعي وراء المصالح الشخصية والعائلية والاغتناء على حساب استمرار فقر وبطالة وتخلف الشعوب.
كذلك أيضاً انحسر الخط العروبي لأن المؤسسات التي أُنشئت من أجل التقدم باتجاه تحقيق مقاصده، كالجامعة العربية التي ولأسباب متعددة، لم تنجزْ المهام التي أُوكلت إليها ولم تطورها لتتلاءم مع حركة العصر، ولم تطلق حركة تبادل وتفاعل وتعاون تعزز صدقية الفكرة وتطور أهدافها للبناء على نظام المصلحة العربي والقائم على التكامل العربي.
كذلك فقد انحسر الخط العروبي أيضاً بسبب الالتباس الذي شاب العلاقةَ بينه وبين الإسلام بما شكّل مسوِّغاً للحَذَر الذي مالت إليه فئةٌ من مُواطني البلاد العربية من فكرة العروبة والانكفاء والتقوقع عند حدود المنطقة أو الطائفة أو المذهب.
وانحسر الخط العروبي أيضاً بنتيجة إخفاق القوى العروبية في التعامل مع التنوع داخل الوطن العربي بعيداً عن الاقصاء والاستثناء وهو ما عنى إخفاق في السعي وراء إغناء المشروع العروبي المتسع للجميع.
ولقد أدى ذلك كلّه إلى التخلي الفعلي لعدد من هذه الأنظمة العربية عن الطروحات العربية وعن القضية الفلسطينية وان كانت قد استمرت تلك الأنظمة في استعمال شعارها للإبقاء على مسوغ يضمن بقاءها في السلطة والحكم. ذلك ما أتاح لقوىً أُخرى غير عربية حمل هذه الراية، لتشكل قضية فلسطين المتروكة بالنسبة لها حصان طروادة، يُدخِلُها إلى قلب قضايانا العربية ويمكنها من خطفها، وليس بهدف المساهمة في إيجاد حلول شاملة لها، بل بهدف إيجاد مكان لتلك القوى تمهيداً للسيطرة والهيمنة والتسلط داخل بعض المجتمعات العربية واستخدامها منصة لتصدير الاضطراب والفتن المذهبية.
من جهة أخرى فقد أدى تخلي عدد من هذه الأنظمة العربية عن مصالح شعوبها الاقتصادية والاجتماعية، وتلهّي معظم قادتها بجمع الثروات الخاصة والاستيلاء على مرافق الدولة وتحويلها إلى أملاك شخصية، إلى انهيار الطبقات الوسطى حاضنة الاعتدال والمواطنة والتقدم والحداثة في أغلب المجتمعات العربية، ودخول أجزاء غير قليلة من المجتمعات العربية وبخاصةٍ الأجيال الشابة في غياهب حالاتٍ مُرْعبةٍ من البطالة والأمية والفقر المدقع والتهميش والإحباط والغضب المكبوت، مما أسهم في خلق البيئات المؤاتية لنشأة التطرف وتوسعه بسهولة.
إضافةً إلى ذلك، فقد عانت منطقتنا العربية من تلك الحرب الشعواء المعلنة على الفكر والتفكير بخاصة إذا كان تحديثياً أو حراً أو نقدياً أو شجاعاً.
لقد أسهمت تلك الصدمات والأحداث والمشكلات في نشوء وتوسع عدد من التنظيمات المتطرفة التي تتوسل العنف أمثال داعش ومن هي على شاكلتها من حيث النشأة والتمويل والتدريب والتسليح، ومنها مجموعات من بقايا الجيش العراقي المنحل من قبل الإدارة الأميركية وبعض التكوينات المتطرفة في المعارضة السورية. هذا فضلاً عما اجتذبته تلك التنظيمات من مئات الشباب المأزومين من الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية وغيرهم ممن يحملون جنسيات دولهم لكنهم مهاجرون فكرياً ومأخوذون بأوهام التطرف، وبالفهم السطحي والمغلوط للإسلام، الدخيل والغريب عن روح العصر. والحقيقة أنها جماعات خرجت على الإسلام وأساءت إليه ونشرت الدمار وروعت الآمنين وشوهت قضايا العرب والمسلمين وتسببت في تصاعد موجات الاسلاموفوبيا وأدت إلى تجميع القوى والجهود لحرف انتباه المجتمع الدولي عن القضايا المحقة للعرب. لقد أسهم هذا الخواء الاستراتيجي في تشجيع الجوار القريب والبعيد على التدخل في الشؤون العربية، وضرب بقايا السيادة والتماسُك العربي.
أيها السيدات والسادة،
نحن إذاً نشهد تكراراً للتاريخ في مشهدين يفصل بينهما مائة عام:
المشهد الأولتعثر المشروع العربي الذي تنامى عبر خمسة عقود من أجل التحرر من الاستعمار، وإقامة الدولة الوطنية، لكنه فشل بعد نضالاتٍ وملاحم وحروب عبر أربعة عقود بسبب تضافر عدد من العوامل ومنها المصالح الغربية وأطماعها، وعقبات وانسدادات الحرب الباردة، وبسبب قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبسبب تردّي تجربة الدولة الوطنية في مرحلتها الثانية على وجه الخصوص.
والمشهد الثانيفشل المشروع العربي الذي بدأه جمال عبد الناصر وجرى العمل على حرفه عن مساره من خلال الممارسات غير الديمقراطية ولاحقاً من قيادات عسكرية وأمنية دكتاتورية وهو الأمر الذي أدى إلى مزيدٍ من التفتيت في المنطقة التي ظلّت تعاني من التفتيت الأول.
إنّ ما حصل في عددٍ من الدول العربية مما صار يُعرفُ بدول الربيع العربي ما كان ليحدث لولا تزامنه أيضاً مع عدد من المتغيرات والصدمات والممارسات ومن أهمها:
أولاً:عجز مؤسسات هذه الدول ونخبها عن التوافق على خطوات للإصلاح السياسي والاجتماعي سواء قبل الانتفاضات الشعبية أو بعد نشوبها، إذ لم تستجب السلطات الحاكمة ومؤسسات تلك الدول لدعوات الإصلاح والتصالح مع شعوبها والاستماع إلى شبانها واحتضان مقوماتها كافة. وكذلك لم تقدم التنازلات المطلوبة للتآلف مع حركة العصر وهي في الحقيقة كشفت عن تحيزاتها الطبقية والطائفية في شكل سافر.
ثانياً:كشفت الانتفاضاتُ الشعبيةُ في عدد من الدول العربية عن عمق الانقسام والتباعد الثقافي والسياسي في مجتمعاتها، والفشل التاريخي لمؤسسات تلك الدول في استيعاب هذا الانقسام وعدم القدرة على علاجه والتأليف بين مكوناته.
ثالثاً:لقد شهدت معظم الدول التي سادت فيها أنظمة عسكرية وأمنية حراكاً ثورياً غير مسبوق نتيجة تراكم وتجذر الاستبداد والتمييز والإقصاء وتنامي فشل الدولة. لكنّ هذا الحراك افتقر في كل قطر إلى شروط الثورات الناجحة، إذ لم تكن هناك برامج واضحة للتغيير، أو إلى من يقودها وينفذها كما لم يتفق المشاركون في هذه الانتفاضات على قيادة فردية أو جماعية، وهو ما أدى بالتالي إلى فشل الحراك الشعبي بطابعه السلمي.
في ضوء هذه الوقائع تكتمل الصورة، وبهذا نشهد اليوم، أيها السيدات والسادة بالفعل ما تكلم عنه ابن رشد عندما استعمل عبارة "تهافت التهافت". نعم نحن نعيش اليوم حالةَ "تهافت التهافت".
فالتهافت الأول أعادنا من قوميتنا إلى أقليات ضيقة وحوَّلنا من عرب إلى مصريين وسوريين وسعوديين وعراقيين وأردنيين ولبنانيين وفلسطينيين وجزائريين وليبيين ومغاربة متناسين ما يجمعنا من روابط قومية ومصلحية. والتهافت الثاني أسقطنا اليوم إلى سوريين علويين وسوريين سنة وسوريين مسيحيين ومصريين أقباط ومصريين مسلمين إلى آخره... والخوف أن يستمر الأمر وتتراكم التداعيات وندخل في حلقة تفتيت مستمرة ومدمرة والتي لا مخرج منها إلا بمشروع عربي جامع يستوعب ويحتضن كل المكونات ولا يقصي أياً منها ويبني على تكاملها بين بعضها بعضاً دون إغفالٍ لِحقيقة انتماءاتها القطرية.
السيدات والسادة،
ما أريد ان أقوله اليوم هو أن التهافت الأول ما كان يمكن أن يؤدي حكماً إلا إلى التهافت الثاني. وهذا التهافت الثاني سيؤدي بدوره حكماً ما لم يجر تدارُك تفاقُم مشكلاته إلى تهافت ثالث قد يقسم المنطقة لا إلى طوائف فقط، بل إلى اثنيات وأعراق وعشائر وقبائل ويدخلنا في صراعات لا تنتهي ولا طائل من ورائها غير تضييع الجهود والطاقات والموارد والإمكانات والفرص. فالتهافت يؤدي إلى مزيدٍ من التهافت. ومن هنا أدخل إلى عنواننا لأغيره قليلاً وأجعله: "إما أن نكون عرباً، موحدين ومتناغمين ومتعاونين في الرؤية والخطة والمشروع والإرادة، أو لا نكون".
بمعنى أنه لا مناص من العودة إلى إنجاح المشروع الحضاري للعروبة المستنيرة والجامعة والمحتضنة لشتى المكونات العربية والإثنية بعيداً عن دعوات الاجتثاث والتشفي والثأر ولكن المتمتع بشجاعة المصالحة والمغتني بالمشروع العربي المعترف بكيانات الدول العربية المختلفة القائمة على أساس الحكم المدني واحترام حرية الفرد وحيث يتساوى الجميع أمام القانون مواطنين كراماً. المشروع العربي الذي يجعل من المصالح العربية المشتركة الأساس في جمع العرب وتوحيد كلمتهم وذلك في إطار نظام مصلحة عربي. إن هذه العودة هي السبيل الوحيد لأن نبقى ولأن نكون ولأن نعطي شعوبنا ما تستحق من كرامة وعدالة وفرص عمل ومشاركة حقيقية في عالم العصر وعصر العالم.
لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للعمل على إنجاح هذا المشروع العربي فالوقت يداهمنا والفشل اليوم يعني عقوداً جديدةً من التشتت والحروب والصراعات التي يخسر فيها الجميع ولا يربح فيها أحد.
وتكون عملية إعادة الاعتبار لهذا المشروع من خلال العمل على ثمانية محاور:
أولاً:إعادة الاعتبار إلى القضية العربية الأساس من خلال العمل على إزالة آثار فشل المشروع الأول وآثار فشل المشروع الثاني ويكون ذلك من خلال التركيز على ضرورة التوصل إلى حلّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية العادلة، يعيد الكرامة المفقودة للعرب ويزيل إحدى أهم تداعيات الاستعمار عن منطقتنا العربية ويكون ذلك استناداً إلى المبادرة العربية للسلام.
ثانياً:العمل على تطوير موقف عربي واضح وثابت يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة وذلك من خلال تطوير إرادة عربية واحدة بشأن القضايا والمشكلات التي تتعرض لها المنطقة العربية وذلك بديلاً عما هو سائد حالياً من تعدد الإرادات المتناثرة والمتعارضة بشأنها.
ثالثاً:ضرورة تطوير موقف مبادر وواضح في آن من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهو الموقف القائم على الإدراك بأن لا مصلحة للفريقين العربي والإيراني من زيادة حدة الخصومة والتخاصم بينهما والتي لن تعود إلا بالدمار والخراب على الفريقين. فالمصلحة المشتركة تقضي أن يكون هناك سعي لإنشاء علاقات صحيحة وندية بين الدول العربية وبين الدولة الإيرانية، تكون مبنية على أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وهو ما ذكره وزير الخارجية الإيراني في مقالته المنشورة في صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 3/8/2015. ويكون ذلك استناداً إلى أنه بين العرب وإيران ثلاثة جوامع أساسية تجمعهما وهي: التاريخ الطويل في العلاقة بين إيران والمنطقة العربية في حلوها ومرّها، وهناك الجغرافيا المتصلة بين الدول العربية وإيران، وهناك المصالح الحقيقية للفريقين والتي يجب أن تكون مستقرة ودائمة بينها والدول العربية وفق سياسة حسن الجوار. إذ إن التخاصم ومحاولات بسط النفوذ والهيمنة لا تجدي ومن المؤكد أنها تعود بالضرر الكبير على الفريقين حيث أنه وفي نهاية الأمر فإن من مصلحة الفريقين الالتقاء والتحاور والتعاون.
إنّ هذا التوجه البناء بشأن العلاقات العربية الإيرانية يقضي على الفريقين بالفعل تحقيق التغير الذي يمكن أن يأتي نتيجة الإدراك بأن ليس هناك من مصلحة لاستمرار حال التخاصم. أي ان يتحقق التغير والتآلف والتلاؤم المشترك واللازم مع مقتضيات العصر باتجاه إنهاء الخصومة. إذ لا يجوز أن يكون هناك عداء بين العرب وإيران وبالتالي الحاجة إلى البناء على قواعد العلاقات التاريخية والجوار الطيب والمصالح المشتركة بما يعني ان يمد العرب أيديهم إلى إيران لاستعادة الثقة والتعاون وان تبادر إيران بالفعل وليس بالقول فقط إلى إنهاء أحلام الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ والعودة إلى البناء على قواعد الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرفين.
تجدر الإشارة في هذا المجال إلى ما ورد على لسان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، والذي يتعلق بأهمية التوصل إلى حلول ونتائج عبر الحوار والتواصل، وهو أمر جيد يجب التركيز عليه بكونه مخالفاً للأسلوب الذي يتوخى استعمال السلاح أو القوة في هذا الشأن وهو الأسلوب الذي اعتمدته الجمهورية الإيرانية حتى الآن.
وبالتالي فإنّ ما جرى فيما يتعلق بإعادة رسْم علاقة إيران مع المجتمع الدولي، يمكن أن يسري أيضاً على بناء العلاقة السليمة والصحيحة والسوية بين إيران والدول العربية.
رابعاً:التركيز على أهمية البناء على العمل العربي المشترك واستخلاص العبر من أخطاء الماضي حيث لم يكن المشروعان سالفا الذكر للشريف حسين والملك فيصل الأول، وللرئيس عبدالناصر قائمين بما فيه الكفاية على تطوير وتعميق المصالح العربية المشتركة المبنية على التكامل العربي بدءًا بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية وصولاً إلى المصالح الأمنية والسياسية. فقد كانت هناك مشكلات إرادة التفرد، وانقسامات الحرب الباردة، وإهمال روحية التكامل وعقلانياته، وتعملق التفوق الإسرائيلي.
إنّ تفعيل العمل العربي المشترك بشقّيه السياسي الأمني والاقتصادي يقتضي تطوير موقفٍ عربيٍّ جَماعي واضح وحازم يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية ومع تركيا ويتصدى للاجتياح الإيراني للدول والمجتمعات العربية وحتماً للتحدي الأساس المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني ولاستمرار عدم وجود حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية على أساس المبادرة العربية للسلام.
ويكونُ ذلك كله معتمداً على مضاعفة الجهد والعمل من أجل استعادة وعودة مصر للعالم العربي لتلعب الدورَ المَنوطَ بها والذي لا يستطيع أحدٌ غيرُها القيامَ به، وعلى أن يكون ذلك بمساعدتها أيضاً على أن تتخفف مما تعانيه من صدماتٍ داخليةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأمنية.
في هذا الصدد، علينا مرةً ثانيةً أن نكونَ صادقين مع أنفسنا: إذ لا يمكن لأي بلد عربي ولا لأي اقتصاد عربي بمفرده أن يحلَّ وحده هذا الكم الكبير من التحديات التي يواجهها، وبالتالي فقد حان الوقت، بل تأخرنا، من أجل التحرك وفق رؤية واضحة لتحقيق تكامل اقتصادي عربي يعود بالنفع على جميع الاقتصادات العربية وكذلك على دول الجوار ويسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي في دولنا العربية.
إنّ التحدي الكبير الذي يواجه دولنا العربية الآن وسيزداد في السنوات العشر القادمة يكمن في كيفية الانصات إلى مطالب شعوبنا ولاسيما إلى شبابنا الساعي والمتحفز للمشاركة ولكرامة العيش. ومن ذلك وجوب العمل على إيجاد 50 مليون فرصة عمل جديدة لاستيعاب المنضمين الجدد إلى سوق العمل العربية. كيف يمكن أن نعملَ على تأهيل جزءٍ وافرٍ منهم من أجل التلاؤم بمعارفهم ومهاراتهم مع طبيعة الحاجات القادمة لاقتصاداتنا العربية وحاجات مجتمعاتنا الشابة.
إنّ هذه الإشكاليات مع عمق تداعياتها السلبية قد تشكل فرصةً يمكن استيلادها من رحم المشكلات التي تعاني منها الدول العربية المنتجة للنفط والمستوردة له على حد سواء وذلك للسير في برامج إصلاحية حقيقية لاقتصاداتها ولمالياتها العامة لتنويع الاقتصادات الوطنية ولتعزيز معدلات النمو وجهود التنمية البشرية والاقتصادية وترشيق القطاع العام ولتمكين القطاع الخاص العربي من جذب الاستثمار المحلي والعربي والأجنبي المباشر.
خامساً:التقدم على مسار الإصلاح السياسي، وذلك بالعمل على إعادة تأسيس الحكم المدني المستوعبة والمحتضنة لكل المكونات، والدولة المدنية، دولة الحكم الصالح والرشيد. فأوهامُ الدولة الدينية قسمٌ كبيرٌ منها سببُهُ فشلُ الدولة الوطنية العربية في مرحلتها الثانية، وقيام أنظمة الطغيان والطائفيات. والتي هرب منها الناس إلى ما ظنوه نعيمَ الدولة الدينية. إنّ أنظمة الحكم الصالح هي الكفيلة بإسقاط أوهام الأصوليات القاتلة وإغراءات الدكتاتوريات التي عانت منها شعوبنا العربية على مدى عقود ماضية.
سادساً:العمل على صعيد السياسة والإجماع والثقافة في التصدي لأسباب تفكك المجتمعات العربية من الداخل والذي تزداد حدّته بفعل التدخلات الخارجية. علينا ان ندرك أنه لا يمكن تحقيق هذه المعالجة من دون التشديد على الهويات الجامعة بدل الهويات ما دون المستوى الوطني والسعي لإعادة الاعتبار لمبادئ المواطنة والمساواة الكاملة من خلال أنظمة حكم قائمة على هذه المبادئ.
سابعاً:التقدم على مسار الإصلاح الديني وإنقاذ الإسلام واسترجاعه من خاطفيه وإنقاذ العالم العربي من الوقوع في تجارب ومحن صراع الأصوليات القاتلة وتجنب هدر عقودٍ إضافية من السنين القادمة في حروبٍ عبثية وتجاربَ فاشلة.
إنّ التعاون يجب أن يكون مركزاً وواضحاً في التصدي للحركات الإرهابية المتطرفة وعلى ضرورة المبادرة الى القيام بجهودٍ مصمِّمةٍ لخوض غمار الإصلاح الديني، وذلك بهدف إنقاذ الاسلام من هذه الآفات والجرائم والبدع التي تُرتكب باسمه، وفي العودة إلى العمل الجاد للتركيز على أهمية الاعتدال والحرص والحفاظ على احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة.
إنّ المسلمين من مفكرين وقياديين وقادةٍ دينيين ومؤسسات دينية ومثقفين، لديهم عمل كثيرٌ ومسؤولياتٌ كبيرةٌ في إعداد البرامج الهادفة لإصلاح التعليم الديني لناشئتنا وكذلك لرجال الدين الذين ينبغي أن يكونوا رواداً في الدعوة للانفتاح والتحديث. هناك حاجة ماسة لتشجيع التفكير النقدي في مجتمعاتنا، من أجل تغيير الرؤية للعالم لدى الأجيال القادمة، خاصةً بعد عقودٍ من استتباع الأنظمة العسكرية والأمنية للمؤسسات الدينية.لقد آن الأوان ليُسهمَ المسلمون من كل الجنسيات في مهمة الإصلاح الديني الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم والمعرفة وتأكيد المطالبة بتوفير حقوق الإنسان والانفتاح على العالم على قاعدة أُخوّةِ البشر وتعارُفهم وتعاوُنهم في المشتركات والمصالح الكثيرة والكبيرة التي تجمعُهُم في الحاضر والمستقبل.
ثامناً:في ضوء هذا الواقع الصعب يتبين بما لا يقبل الشك أنه لا يمكن لدولنا ولمجتمعاتنا العربية أن تلقى الاهتمام والاحترام في محيطها وفي العالم في ظل غياب موقف عربي حازم وفكر عربي مبادر وخلاق. على العكس من ذلك، فإنّ حال التشرذم والانقسام والتشاطر على بعضنا بعضاً والاستمرار في الانصياع إلى منطق الإرادات المتعارضة بدلاً من التآلف بينها ضمن إطار المصلحة العربية الواحدة سوف يدفع بدول الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي إلى تجاهلنا والاستخفاف بنا، أو محاولات الاستيلاء على دولنا وانتهاك سيادتنا.
هناك حاجةٌ ماسةٌ لتكوين موقف عربي يعيد للعرب احترامهم بدايةً لأنفسهم ولدى غيرهم ويستعيد بموجبه المواطنون العرب بعض الأمل في المستقبل، ويُعيدُ إليهم احترام العالم لهم ولقضاياهم. وهذا ما يمكن أن يُساعد عليه التقدم على مسار بناءُ قوةٍ عربيةٍ مشتركةٍ للحفاظ على الأمن القومي العربي على الأرض وفي الجو والبحر وهو ما يمكن أن يشكِّلَ الخطوةَ العمليةَ الأولى في إنتاج موقف عربي يُخرجُ الأمة من حال التقاعس والتواكل ويوقف حالة الانحدار العربية.
إنني أدعو من جهةٍ ثانيةٍ إلى أن تتبنى دولةٌ عربيةٌ كبرى أو جهةٌ عربيةٌ ثقافيةٌ وسياسيةٌ كبرى إقامة "مجموعة استراتيجية عربية" من العلماء والمفكرين والاستراتيجيين من أكثر من بلد عربي مشهود لأعضائها بالموضوعية والرؤيوية الثاقبة والمتطورة للقضايا العربية تتولى دراسة السُبُل الكفيلة بتحويل النقاط الثمانية التي ذكرتُها وذكرها غيري كثيرون إلى سياساتٍ أو مقترحاتٍ لسياساتٍ ندخل بها إلى مؤسسات الدول العربية ثم إلى المؤسسات العربية الشاملة من أجل التفكير والإقرار والتنفيذ.
ولكي تُصبح هذه المبادرة شاملة، فأنا أقترح عقد اجتماع استراتيجي بين الدول العربية الثلاث الكبرى: مصر والسعودية والمغرب، ولا تقتصر عليها، تكون مهمته وضع سياسات مشتركة للأمن العربي في العقد الحالي، ولكيفية التعامل مع قضايا أربع: قضية التهديد الاستراتيجي للأمن العربي، وقضية العمل والتعاون مع الدول الإسلامية والمجتمعات الإسلامية وقضية التطرف والإرهاب وقضية التعامل مع المجتمع الدولي وعالم العصر وعصر العالم.
أيها السيدات والسادة،
يقول الشاعر العربي: "تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسراً... وان افترقن تكسرت آحدا".
هناك قولٌ ذكرتُهُ سابقاً وأردده الآن وهو في اللغة الانجليزية من المفيد الاستشهادُ به وهو يقول: “Stand up to be counted”، وهو يعني وجوب الوقوف أو اتخاذ الموقف الملائم لكي يرى وينظر إليه المُلتفّون حول الطاولة أو المسرح وبالتالي لكي يحسبوا حساباً للمبادر العربي، والمشارك العربي.
إنّ الردّ الحقيقي على السؤال المطروح في عنوان هذا المؤتمر وهو العرب نكون أو لا نكون. والجواب: هو نعم نكون ويجب أن نكون، وليس لنا بديلاً من أن نستمر في عزمنا وإرادتنا ومثابرتنا من أجل أن نكون، وذلك يتحقق فقط عندما تتوافر لنا الإرادة المصممة التي عند توفرها لا يعود هناك شيءٌ صعباً. لا بدّ أن يكونَ توجُّهُ بوصلتنا صحيحاً وملتزماً بالثوابت العربية القائمة على المصالح العربية ويكون الإنسان العربي المتلائم مع حاجاته وحاجات مستقبل أمته وأمنها وتقدمها، هو الهدف المقصود والباقي.
أيها الإخوة والأخوات، نعم سنكون.
