الرئيس السنيورة : الموقف الغربي من ازمة الصراع العربي الاسرائيلي وحق الفلسطينيين عقبة اساسية بوجه العلاقة الثقافية بين المهاجرين من دولنا المجتمع الغربي

-A A +A
Print Friendly and PDF
العنوان الثاني: 
كانت له كلمة في افتتاح منتدى اصيلة الثقافي ومحاضرة حول موضوع الهجرة وتأثيرها على الهوية الثقافية

افتتح رئيس كتلة المستقبل  الرئيس فؤاد السنيورة ممثلا بالوزير السابق طارق متري منتدى اصيلة  الثقافي السنوي في المغرب وذلك بسبب اعتذار الرئيس السنيورة عن المشاركة في اللظة الاخيرة لاضطراره للعودة الى لبنان مع صدور القرار الاتهامي في جريمة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبدء مناقشة مجلس النواب اللبناني للبيان الوزاري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي وفي ما يلي نص الكلمة الافتتاحية  للمؤتمر  للرئيس السنيورة والمحاضرة  التي تمحورت حول مرضوع الهجرة والاندماج الثقافي مع الغرب ولتي القيت من قبل الوزير متري :

 

الصديق الكبير معالي الأستاذ محمد بن عيسى،

الرؤساء والوزراء والسياسيون العرب والأفارقة،

أيها الأصدقاء،

أيها الزملاء،

 إنها المرة الثالثة التي أُحاولُ فيها الاستجابة لدعوة معالي الأستاذ محمد بن عيسى لأكونَ بينكم مستمتعاً بضيافة الصديق، ومُغْتنياً بالأفكار والمبادرات التي دأب هذا المنتدى الثقافي الكبير على إطلاقها لأكثر من عقدين. إنما ما لا يُدْرَكُ كُلُّه لا يُتْركُ جُلُّه. فقد قبل الأخُ الكبير الوزير طارق متري، وهو صديقٌ مشتركٌ لي وللأستاذ عيسى، وفي الثقافة والسياسة معاً، أن يحضُرَ هذه المناسبةَ الجليلةَ، وأن يُسهم بالأصالة وبالنيابة في أعمال المنتدى باسمي وباسمه. فمعذرةً من الأخ محمد بن عيسى وشكراً للصديق طارق متري على الوقت والجَهد والتطوُّع والإسهام.

 يعيش لبنان في هذه اللحظات أوقاتاً تاريخية استوجبت أن أكون متواجداً فيه. فهو يشهد ربيعاً عربياً من نوع آخر، هو ربيع العدالة والحقيقة ونهاية مرحلة الاغتيال السياسي المتفلت من العقاب، العدالة التي ستكون أساس الحرية والاستقرار.

 ونحن نأمل أن يكون لبنان الذي قدم  نموذجاً للربيع العربي نحو الحرية في العام 2005، يقدم اليوم نموذجاً لربيع عربي نحو إقامة العدالة.

 

أيها السادة،

أيها الزملاء،

 

لقد مضت علينا في العالَم العربي عقودٌ تفاقمت فيها المشكلات باتجاهين: تراكُمُ القضايا العالقة والتأزُّمُ الآخَرُ الناجمُ عن تفويت الفُرَص، وصمّ الآذان والأعْيُن والعقول عن نداءات المستقبل واحتياجاته. ومن هنا تأتي الأهميةُ المضاعفةُ لحركات التغيير، وتأتي الصعوباتُ والإمكانياتُ والآفاقُ المفتوحةُ في الوقتِ ذاتِه. ولنضربْ مَثَلاً لما نقصِدُهُ بموضوع منتدى أصيلة لهذا العام وهو الهجرة. فقد تفاقمتُ هذه المشكلةُ بين ضفتي المتوسِّط في العقود الأخيرة. إذ استنزفت الهجرةُ الطاقات والإمكانيات في إفريقيا والعالَم العربي المتوسِّطي، وتسببتْ بمشكلاتٍ في الضفاف الغربية والشمالية لبحر الحضارة والتواصُل التاريخي هذا، وجدَّدتْ طرح مسائل الهوية والخصوصية لدى العرب والأفارقة، ولدى الأوروبيين في القارة القديمة. ولستُ أزعُمُ أنّ حركات التغيير العربية سوف تحلُّ هذه المشكلات تلقائياً، لكنها تفتح الأُفُقَ على بحثٍ جديدٍ وطازَجٍ لكلّ القضايا. إنّ القوى الشابّة في العالم العربي وإفريقيا تحاولُ الآن القيام بحركةٍ تصحيحيةٍ في بلدانها الأصلية لكي لا تبقى بلداناً طاردةً ومستنزفة. وعلى الأوروبيين التجاوُب بالتعاوُن، لكي تعودَ النواحي الإيجابية للهجرة، والتي عرفْناها نحن اللبنانيين منذ أكثر من قرن.

 

أيها السادة،

 

إنها كلمةٌ افتتاحيةٌ أردتُ فيها طرح رؤوس الموضوعات. وهناك مجالٌ لنقاشاتٍ مستفيضةٍ ومنفتحة وبنّاءة في الغد وبعد الغد. ولذلك، أودُّ أن أختِم بتحيةٍ للملك محمد السادس في عيد جلوسِه، وتحية له من جهةٍ أُخرى لمبادرته إلى القيام بعمليةٍ تطويريةٍ هامةٍ.

 والسلام عليكم.

 

المحاضرة

في ندوة: "الهجرة بين الهوية الوطنية والهوية الكونية"

 

كما كانت للرئيس السنيورة محاضرة في المنتدى المنعقد تحت

معالي الوزير محمد بن عيسى- أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة،

حضرة رئيس جمهورية غانا السابق جون اجيكيم كوفور،

الإخوة المشاركون، السادة الحضور،

 

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "ألم تكن أرضُ الله واسعةً فتُهاجروا فيها". وهكذا فإنّ الآية الكريمة تلحَظُ أمرين: أنّ أرضَ الله واسعةٌ وينبغي اعتبارُ هذا الأمر حقيقةً واقعةً للاستعمال. والأمر الآخر، أنّ الهجرةَ هي أحد السبل للخلاص من الضيق، وفتْح الآفاق بعد انسدادها.

 

إنّ الأديان السماوية اتّسمت في مراحل دعوتها بأطوارٍ مختلفة، وأرّخت للميلاد والوحي والموت. إلاّ أنّ الإسلام اتّخذ من الهجرة أساساً لتأريخ سيرته، وهي الهجرة التي جاءت بعد سنواتٍ من الوحي والدعوة. ويدل ذلك لما للهجرة وأساسها من عهدٍ بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة المنورة بتنوعهم وتعدّد انتماءاتهم ومعتقداتهم. وهذا ما يؤكد على اعتراف الإسلام بالتنوع والتعدد واحترام الخصوصيات للمجتمعات التي يهاجر إليها المسلم.

 

لقد قام العالم أيها الإخوة وتطورت الإنسانية على واقع الهجرة وهو ما تؤكده اليومَ الفحوصُ الجينية التي تثبت ذلك بالعلم، والتي تستطيع أن ترسم الخارطةَ الجينية المحدَّدة التي تَبِعَها أجدادُنا في انتقالِهم وحركتهم حول العالم.

 

إذاً كانت الهجرة وما تزال العاملَ الأهم في تطور البشرية عبر التاريخ حيث أتاحت للإنسان فرصة الانتقال وبالتالي التأقلم والتفاعل مع مختلف التحديات والصعوبات، كما أتاحت تبادل السِلَعِ ونقل واكتساب المعارف والخبرات. وهي وكما يُجْمِعُ خُبراءُ علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا وحتى الاقتصاد أنها تشكل أيضاً أحد العوامل الأهم في حاضر ومستقبل الإنسانية.

 

أيها الإخوة والأخوات،

 

أنا مُواطنٌ من لبنان، وللبنان مع الهجرة قصةٌ شائقةٌ وشاقّةٌ ومُفْرحةٌ ومحزنةٌ وتكوينيةٌ في كلّ الأحوال.

 

 

 

فلبنانُ المهاجرُ لم يترك زاوية في هذا العالم إلاّ وانتقل إليها وتفاعل معها ومع أهلها واكتسب منها ومنهم. وهو في انتشاره العالمي وعلى مدى عقود طويلة أعطى النوابغ في كثير من الحقول وأظهر مدى ما يتمتع به اللبناني من حيوية وطاقة وإبداع. فهو مثلاً قد أعطى عالم الأدب جبران خليل جبران وأمين معلوف وأعطى عالم الطب مايكل دبغي وأعطى عالم الأعمال كارلوس سليم وأعطى عالم الصناعة كارلوس غصن. ولبنان المهاجر هو من أعطى لبنان الجريح رفيق الحريري، لينفخ فيه روحاً وثّابة وليحلِّقَ مثل طائر الفينيق ويُساهِمُ في إحلال سِلْمِه الأهلي وإعادة إعماره ونهوضه.

 

ولكنّ اللبنانيين في انتشارهم أيضاً وبالرغم من المكاسب الكبيرة التي حققوها فإن لديهم حكاياتٍ كثيرةً أيضاً عنها كونهم عانوا منها لجهة تباعُدُ العائلات وتقطُّعُ أوصال بعضها وخساراتٌ كبيرةٌ لطاقاتٍ شابة واعدة اضطُرّتْ أن تغادر وطنها لكونها لم تجد مستقبلها فيه. والحقيقة أن اللبنانيين قد خسروا في موجات الهجر المتعاقبة قسماً من تلك الطاقات التي كانوا قد استثمروا فيها وراهنوا عليها من أجل فتح آفاق واعدة لهم ولأبنائهم في المستقبل.

 

 

 

أيها الإخوة والأخوات،

 

إنّ النظر إلى العالم العربي اليومَ، يجعلُنا نُقِرُّ بالمكاسب التي حققتها والأكلاف التي تكبدتها عديدٌ من الدول العربية من خلال مَنْ هاجر بشكلٍ دائم أو مؤقَّتٍ من أبنائها. ولبنان من هذه الدول، لكننا لا نستطيع أن نغضَّ نظرنا عن المشكلات التي ارتبطت وترافقت مع الهجرة ومنها ظهور إشكالية الهوية والخصوصية ليس في الدول العربية فقط، بل ولدى الأوروبيين أيضاً. وقد أسهمت هذه المسألة في تطور قضية المُهاجرين العرب إلى أوروبا وأنحاءَ أخرى في العالم، وهذا إلى جانب إشكالياتٍ أُخرى بالطبع. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نغض النظر عن واقع الصعود السريع لليمين الأوروبي الذي استعملها وسخرها لخدمة مصالحه الانتخابية. وهو يستمر بالتركيز على هذه المشكلات التي تولدها الهجرة في هذه البلدان أو تلك التي يحاول ذلك اليمين تصويرها كأنها المشكلة. ولذلك فنحن نجد مرشحاً هنا يبني برنامجه الانتخابي حكراً على بند وحيد يتلخص بالعداء للعرب و للمسلمين وما يمثلون، أو نجد مسؤولاً هناك يدق ناقوس الخطر فيحذِّرُ من ذوبان ثقافته الغربية وهويته المسيحية بسبب تنامي أعداد المسلمين في بلده.

 

 

في أي حال، لا نستطيع أن نغض النظر عن هذا الواقع الإشكالي المتنامي. ونحن نخطئ إذا ما نسبنا جُلَّه إلى الاستكبار والاستعمار الغربي وغيرها من الحجج التي غالباً ما يستعملُها البعض لدينا والتي قد يَصِحُّ بعضُها إلى حدٍّ معين. إلاّ أنه ومن جهة أخرى لا نستطيع إلاّ أن نقف أيضاً ومطولاً لنسأل أنفسنا وبمكاشفة شفافة قبل سؤال الآخرين: كيف تحوَّل الإسلام وهو دين الانفتاح وقبول الآخر والـConvivenciaإلى اتهامٍ يوجَّهُ إلى أولئك المهاجرين الباحثين عن أمل جديد واكتساب لقمة العيش والحياة الحرة والكريمة في بلاد الله الواسعة؟ ثمّ كيف تحول دين النبي المهاجر إلى تهمة توجه إلى بني قومه المهاجرين في بلدان العالم كما أصبحت تُستعمَلُ وقوداً في الانتخابات الديمقراطية في بعض البلدان لكسب تلك المعارك الانتخابية؟!

 

إن اليمين الأوروبي الذي يربط الهجرة بالإرهاب يتغاضى عن حقيقة أساسية وهي أن الغالبية العظمى من المهاجرين هم أُناسٌ مكافحون يعملون بجهدٍ ومثابرة ويلتزمون بالقانون ويسعون إلى التأقلم مع مجتمعاتهم الجديدة وإلى تحسين مستوياتهم المعيشية وظروف عيشهم المستقبلي. كما أنهم يسعَون إلى خدمة البلد الذي يعيشون فيه. ولكن للأسف لطالما تؤدي ممارساتُ القلة الثائرة أو الناقمة إلى تحولها إلى السلبية أو إلى سلوك طريق العنف وهو مما يؤثر سلباً على الموقف من الغالبية الصامتة من أولئك المهاجرين.

 

على كلِّ حالٍ، لا يشكِّلُ هذا السلوك إلاَّ جزءًا بسيطاً من هذه الإشكالية. فعندما يتحدث الغرب عن "الهجمة" الإسلامية على ثقافتهم وحضارتهم فهم لا يعنون الخصوصية فحسب- بل هم يعنون خطر الذوبان أو ضياع الهوية بسبب كثافة الهجرة الإسلامية إلى بلدانهم- وهو خطرٌ يمكن أن نتبين أن فيه الكثير من المبالغة حيث لا يتخطى عدد المسلمين نسْبة الـ8% من مجموع سكان أوروبا على أكثر تقدير. إلاّ أن هناك مشكلة متناميةً في هذا الخصوص تكمن في أن الكثير من أولئك المهاجرين يعيشون غالباً في أزقة البؤس المتاخمة للمدن الأوروبية الكبرى مما يمنعهم من الانخراط والاندماج في تلك المجتمعات ومن تكوين حَيِّزٍ إيجابي لهم في أرجائها وهو الأمر أدى بالتالي إلى جعل البعض منهم أكثر عرضةً للانخراط في أعمال غير محمودة وبالتالي التحول عن الأهداف التي هاجر أصلاً من بلاده إلى هذه المجتمعات الجديدة.

 

وهنا تماماً تكمن إحدى أهم جوانب المشكلة، وعلى هذا فإن علينا النظر بدقة في علاقة الهوية العربية والإسلامية المهاجرة بهويات البلدان التي نزحوا إليها وبالتالي أيضاً العلاقة بالهوية الكونية وما يطرحه ذلك من إشكالياتٍ حقيقية.

 

 

أيتها السيدات،

أيها السادة،

 

إنكم في اختياركم هذا العَنْوانَ لمؤتمركم: "الهجرة بين الهوية الوطنية والهوية الكونية" تضعون إصبعكم على البعد الثقافي لموضوع الهجرة العربية والأبعاد الإنسانية في صميمها.

 

فللهجرة وجهٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ إيجابي يتمثل بسعي المهاجرين للانطلاق نحو حياة أكثر حرية وأكثر كرامة وأكثر عدالة وأكثر إنتاجية وبحبوحة مع الاستفادة من فرص كبيرة لتحويل موارد مالية كبيرة للوطن الأم وللعائلات التي تنتظر تلك التحويلات لإعانتها على تحسين أوضاع معيشتها وتطوير مستقبلها ومستقبل أفرادها.

 

والعامل الاقتصادي مهمٌ أيضاً في البلدان التي تتم الهجرة إليها. فجميعنا يدرك كم هي كبيرة المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها الدول الأوروبية على المدى المتوسط لناحية انعكاس هَرمِها (ageing) الديمغرافي وعدم توافر ما يكفي لديها من اليد العاملة الشابة التي يمكن أن تساهم في تحمل كلفة دفع تعويضات نهاية الخدمة وكلفة العناية الطبية المتنامية للمتقاعدين وللطاعنين في السن الذين أصبحوا يعيشون لمدة أطول ويستفيدون بدرجة أعلى من التطور والتقدم الطبي.

 

لقد أسهمت هذه العواملُ جميعُها أي العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إيجاد إشكاليات جديدة وعديدة اختلطت فيها إيجابياتُ الهجرة بسلبياتها سواء في البلدان المصدرة أم في البلدان المستوردة للهجرة. هذا مع اعتقادي- وهو على كل حال ما تشير إليه العديد من الأبحاث- أن الإيجابيات التي تتأتى عن الهجرة تظل تطغى على السلبيات في معظم الأحيان وذلك على صعيد البلدين أي البلد المصدِّر والآخر المستورد للهجرة.

 

لكنّ الواقعَ أن الإشكالية الحقيقية تطرح ذاتها على الصعيد الثقافي وهو ما يشير إليه عنوان المؤتمر: "بين الهوية الوطنية والهوية الكونية" تظل قائمة ومؤثرة على أكثر من صعيد.

 

فالسؤال الحقيقي هو كيف يستطيع المهاجر العربي أن ينخرط في الثقافة الكونية فيساهم فيها ويتفاعل معها ويستفيد من إيجابياتها وتقدمها على الصعد كافة، من دون أن يشعر بخُسْرانِ فرادته العربية أو الإسلامية.

 

وفي هذا لا يسعني إلاّ أن أسأل نفسي: لماذا استطاع المهاجرون الأوروبيون والآسيويون وحتى اللاتين إلى حد بعيد التأقلم والتآلف مع الثقافات الغربية والهوية الكونية التي نشأت من رحمها، من دون أن يخسروا انتماءهم وهويتهم، ولماذا لا ينجح العرب والمسلمون المهاجرون بالدرجة ذاتها؟!

 

ولقد قادني هذا السؤال في الواقع إلى التعمق أكثر في واقعنا العربي. وهنا يمكن الملاحظة أن عدم قدرة المهاجر العربي أو المسلم على التفاعل والتأقلم والتلاؤم مع الحضارة والثقافة الغربية بالقدر الذي يقدر عليه مهاجرون من جنسيات أخرى، هو أيضاً انعكاسٌ لتأخر العالم العربي بشكل عام عن التآلف والتكيف مع التحولات والتقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم الغربي. نقول هذا على الرغم من أنّ العرب والمسلمين استطاعوا التكيف مع نوع آخر من التحولات ولاسيما على صعيد التقدم التكنولوجي الذي حققه الغرب. وفي هذا المجال، فقد شهدنا كيف أدى هذا التكيف التكنولوجي مع التقدم العالمي إلى كسر الحواجز والأقفال التي أقامتها الأنظمة العربية في وجه شبابها وشعوبها. ولقد حدث ذلك نتيجة تزايد الإدراك لدى الشعوب العربية بحجم الهوَّةِ السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تفصلهم عن بقية العالم. هذه الأمور بمجموعها أسهمت في إنجاح ثورة الربيع العربي التي يحاول الشباب العربي من خلالها أن يلحقوا بقطار الزمن وان يواكبوا ركب التغيير بعد أن أدركوا كم تأخروا عن الانضمام إليه.

 

لكنّ السؤالَ الأساسيَّ الذي ينبغي علينا عدمُ التهرب من طرحه هو لماذا اتسعت هذه الهوة الفاصلة ثقافياً ونفسياً بين المواطن العربي والإسلامي وبين الثقافة والحضارة الكونية؟

 

هنا لا يسعني إلا العودة إلى إثارة المشكلة الأساس التي تطرح نفسها علينا في علاقتنا وعلاقة بلداننا العربية مع الدول الغربية راهنا بشكل عام ألا وهي مشكلة فلسطين والفلسطينيين وأزمة الصراع العربي الإسرائيلي. إذ إنّ الموقف الغربي على العموم حال دون الوصول إلى تقدم حقيقي وملموس على مسار التسوية العادلة والشاملة والدائمة لقضية اغتصاب فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني وعدم الوقوف معه وتمكينه من استرجاع حقوقه. ذلك ما أدى بالتالي إلى الإبقاء على تلك الهوة الفاصلة وزيادة حدة التباعد وفقدان الثقة بين العرب والمسلمين من جهة والدول الغربية من جهةٍ أخرى.

 

من هنا نرى أننا نحن بحاجة إلى التقدم على مسار إيجاد حلٍّ على مستوى هذه المعضلة والعمل على التعامل بصدق وشفافية وبشكل مبادر مع العالم الغربي لتجاوز هذا التباعد وتقليص هذه الفجوة في العلاقة بين الطرفين وذلك لكي يشعر المواطن العربي المقيم وكذلك المهاجر أيضاً أنّ الحواجز في علاقته مع الغرب قد بدأت تسقطُ من أمامه واحداً تلو الآخر. لقد أصبح واضحاً أنه ومن دونِ فَتْحِ هذا القفل الذي يبقي هذه الأسوار العالية في العلاقة بين الطرفين مغلقة فإنه ستبقى الحواجز مرفوعةً، وهي بكونها كذلك ستبقى تطرحُ نفسها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية وعلى وعي تلك المجتمعات لذاتها في علاقتها مع العالم الغربي.

 

كذلك يقودني هذا التفكير، أيها الأصدقاء، في النظر إلى هذه الإشكالية الثقافية التي يطرحها موضوع الهجرة وبالتالي إدراك التحدي الذي تطرحه المزاوجة ما بين الهوية الوطنية والهوية الكونية وبالتالي إلى الإدراك المرير لحقيقة دامغة بأن الشباب العربي لم يكن مهجراً في وجوده في أوروبا أو في مختلف أقطار العالم فحسب، بل هو كان في الأصل أيضاً مُهجَّراً في عُقْر داره.

 

لقد كان هذا الإنسان العربي أيضاً مهجَّراً من خلال الحرمان الذي كان يعاني منه فيما يتعلق بعدم قدرته على المشاركة الفعالة في بناء دولته ومجتمعاته ومستقبله. وهو كان مهجراً أيضاً من خلال حرمانه من فرصة الحصول على التمكين الاقتصادي والاجتماعي الضروري لتحسين فرص تطوره المستقبلي، كما كان أيضاً مهجراً من خلال سياسات كم الأفْواه، والمنْع من ممارسة ما أضحى أبسط الحقوق في معظم بلدان العالم ألا وهي الحرية والكرامة.

 

 

 

أيها السيدات والسادة،

 

لن يتصالح المهاجر العربي مع الثقافة الكونية ما لم يتصالح العالم العربي أولاً مع هذه الثقافة. ولن يستطيع المهاجر العربي والمسلم أن يزاوج ما بين هويته وانتمائه من جهة والثقافة الغربية التي يعيش في أرجائها من جهة أخرى، فيستفيد عندها من فضائها وآفاقها ومن تطورها ومما يمكن أن تقدمه لذلك المهاجر من دون أن يتفاعل معها ودون الذوبان فيها. انه ما لم يستطع العالم العربي والإنسان العربي أن يجد هذه الوصفة الضائعة منذ أكثر من مائتي عام والتي تتيح له المحافظة على هويته العربية والإسلامية وتتيح له في ذات الوقت التلاؤم والإسهام في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يشهدُهُ العالمُ كلَّ ساعة، والذي يكونُ على شبابنا الصاعد في بلدانهم وفي المهجر الاندفاعُ في سياقه والتساوق معه.

 

في هذا الإطار أرى أن هذا الربيعُ العربيُّ يشكل فرصةً هامةً متجددة وأملاً فسيحاً، فالشباب العربي اختار طريق المستقبل بدل هواجس الماضي، واختار الإنترنت والتواصل بدل الوقوف في فسطاط بن لادن، واختار التقدم والتلاؤم بدل الانغلاق والتقوقع. وقد أثبت بالفعل من خلال هذه الشعارات العميقة في بساطتها والجميلة في مدلولاتها، أنه متمسكٌ بهويته وانتمائه وثقافته وملتزمٌ بقضاياه الأساسية والمركزية: قضية الحرية وقضية العدالة، والعيش في العالَم ومعه دون صراع أو مناكفة.

 

لقد قامت على مدى أكثر من أربعين عاماً ثُنائيةٌ مُتَضادّة بين الأنظمة والتمرد الإسلامي. ونشهدُ في هذه الشهور سقوطاً لطرفي الثُنائية التي جمَّدت وشرذمت العالم العربيَّ من قبل. والروح الجديدةُ هي الروحُ الوثابة لاسترجاع الكرامة والسير في طريق الإصلاح والمُصالحة مع النفس والآخر.

 

لقد أثبت هذا الشباب أنه سبقنا، وبأن واجبنا الأول بوصفنا قياداتٍ عربية وأفريقية وآسيوية هو العمل على اللحاق به علّنا نستطيع أن نترافق سوية ومع العالم من حولنا في الإبحار المنظم والواثق إلى بَرِّ الأمان من خلال التجول نحو اعتماد أنظمة عصرية ديمقراطية ومنفتحة.

 

هنا لا بد لي أن أُحيِّيَ بلاد المغرب العربي حيث انطلقت بداية ثورةُ التغيير في تونس، وهنا أيضاً التطورات الجارية في المملكة المغربية حيث تظهر قيادة الملك محمد السادس الحكيمة أنها ساعيةٌ إلى التلاؤم والتطور وهي قد خطت خطوةً مبادِرةً ومتقدمةً فأقرت الإصلاحات الدستورية التاريخية التي تدخل هذا البلد العزيز في المسار المتقدم للديمقراطية والعصرنة والمشاركة في إدارة الشأن العام. وهي بذلك تحافظ على هذا الوطن وتصونه وتعمل على تعزيز قدرات الجمهور وتمكينه من تحقيق المزيد من الانخراط والمشاركة الفعالة في بناء المؤسسات وحوكمتها، والإعداد لصنع المستقبل الزاهر للنفس والجوار.

 

فتحيةً للمغرب العربي وتحيةً للمملكة المغربية مليكاً وقيادةً وشعباً، والتي أثبتت أنها في طليعة العالم العربي في روحه ووجدانه وتوقه إلى حياة أكثر عدلاً وإنصافاً وحرية وكرامة.

 

أيها السيدات والسادة،

 

في مجال الدعم الاقتصادي الذي تحتاجه البلدان التي خطت باتجاه التحول الديمقراطي وإقدارها على معالجة المشاكل القديمة والمستجدة، فقد عبرت مجموعة الثماني وعدد من الدول العربية وفي مقدمها المملكة العربية السعودية والكويت مشكورةً عن استعدادها لتقديم الدعم المالي لتونس ومصر وإقدارهما على الصمود وتحقيق المزيد من النمو والتنمية المناطقية المستدامة. ولكنّ الحاجةَ الكبرى تظل في عدم التخلي عن هذه الحركات التغييرية، والاستمرار في دعمها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. كما الواجبُ أيضاً هو الدفع نحو التقدم باتجاه تحقيق المبادرة الصادقة والفعالة وصولاً إلى حل الصراعات المتبقية في المنطقة وفي مقدمها الصراع العربي/ الإسرائيلي الذي يضغط ويؤثر عميقاً في ضمائر العرب والمسلمين.

 

وعسى أن يكون الغربُ قد أَدرك أخيراً أن الاستثمار في عالمٍ عربيٍ ديمقراطي متقدمٍ ومزدهر يعمه السلام العادل والشامل والدائم هو استثمارٌ مباشرٌ في استقرار وأمن أوروبا والعالم.

 

أيها السيدات والسادة،

 

إننا نرى أن من واجبُ السياسيين والمثقفين العرب والأفارقة والآسيويين، الإمساك جيداً بالبوصلة والعمل مع الشباب العربي من أجل تحقيق تقدم سياسي واقتصادي واجتماعي يتلاءم مع العالم ويتفهم مستلزمات العصر. لقد شارفتْ حقبة ماضية على الانتهاء، والتي كانت الهويةُ غير متصالحة أو متلائمة مع العالمية، وكانت النظرة إلى العولمة سبيلاً لدى البعض للتنكر للانتماء لهذا العصر. ذلك أنّ المصالحة مع الذات والتي تجري في بلداننا الأصلية الآن سوف تقود في المحصلة إلى مصالحةٍ مع الآخر في ديار الاغتراب، وفي العالم كُلّه.

 

 

إنّ ما يجري اليومَ عندنا ليس حركةً شعبيةً زاخرةً وحسْب، بل هو بالإضافة لذلك ثورة ثقافية، تُغيّر من رؤيتنا لأنفُسِنا وأدوارنا وعلاقات فئاتنا الاجتماعية بعضِها ببعض، وعلائقنا بالعالم. ولذلك فنحن محتاجون بالفعل إلى عمليات تجديد في مجالات الرؤية الثقافية، وفي مجال إصلاح الفكر الإسلامي، وإعادة النظر في مقولات العلاقة بالآخَر. وعلى الآخرين من أصدقائنا في العالم أن يبادلونا المراجعة الشاملة بمراجعةٍ مُماثلةٍ تخرجنا من الاستنزاف للجهود والطاقات والموارد وتبعدنا عن الاستهدافات والمواجهات.

 

إنه عندما يحدُثُ ذلك، تُصبحُ الهويةُ الوطنيةُ مكمِّلاً للهوية الكونية لا مضاداً لها أو انقلاباً عليها وينهي العالم العربي عندها إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجهُه منذ أكثر من قرن والتي شهدْنا ومازلنا نشهدُ ارتداداتِها وإرهاصاتِها على أكثر من صعيد.

 

لقد قلتُ مراراً إننا لا نريد أن نخافَ العالم ولكن أيضاً لا نريد أن نَخيفَهُ، وسيكون العقد القادمُ هو الفترة التي ندخل فيها على هذا المسار الواعد، مسار التعرف إلى الذات من خلال الاعتراف بالآخر والعمل معه من أجل الخير والتقدم، بحيث تؤدي الهجرة مبتغاها، ويؤدي التواصُل المنفتح وظائفَهما التاريخية والإنسانية.

 عنوان " الهجرة بين الهوية الوطنية والهوية الكونية  " والتي القاها  عنه ايضا الوزير متري وفي ما يلي نصها :

تاريخ الخطاب: 
08/07/2011